"دولة داخل الدولة": هكذا سيطرت منظمات الإجرام على المجتمع العربي

93 قتيلًا خلال سنة واحدة، رقم قياسي غير مسبوق؛ 400 ألف قطعة سلاح غير قانوني؛ منظمات إجرام أنشأت "دولة داخل دولة" لديها مئات الجنود الذين يعملون الإجرام "العادي" وفي تجارة الأسلحة والمخدرات، لكن أذرعهم تمتد إلى المصالح التجارية القانونية أيضًا، بل وإلى السلطات المحلية حتى؛ مئات آلاف المواطنين المهمَلين يعيشون أجواءً من الرعب في بلداتهم؛ وفوق هذا كله: شرطة تبدي عجزًا مطبقًا، لا مبالاة، بل وقربًا حميميًا حتى إلى عائلات تضعها هي نفسها تحت تعريف "عائلات الإجرام". وحتى المراكز التي تقيمها الشرطة لا تجلب الخلاص: في الغالبية الساحقة من البلدات التي أقيمت فيها محطات للشرطة خلال السنوات الأخيرة ارتفعت وتيرة جرائم القتل، بدل أن تنخفض.
هذه هي الصورة المقلقة التي ترتسم من سلسلة التقارير التي تُنشر هنا، تباعًا، وتتضمن حصيلة لقاءات مع رؤساء وأعضاء سلطات محلية، ضباط سابقين وحاليين في شرطة إسرائيل، أخصائيين في علم الإجرام، محامين مختصين في المجال، نشطاء في المجتمع المدني، مقاولين يتعرضون للتهديدات، وجهاء أعضاء في جاهات الصلح المختلفة وحتى "جنود" في منظمات إجرامية.
الصورة التي تكشف عنها هذه التقارير مُرعبة وتُبيّن أن ظاهرة الإجرام في البلدات العربية ليست ظاهرة محلية أو ثقافية. إنه "عرض" تتولاه منظمات الإجرام المنتشرة في جميع البلدات العربية، تقريبًا، بصورة مباشرة أحيانًا وبطريقة "الوكالة"، أي منظمات محلية تنشط تحت رعاية منظمات قُطرية، أحيانًا أخرى.
ترسل هذه المنظمات أذرعها في كل الاتجاهات وتخترق كل المجالات. فإلى جانب الإجرام "الكلاسيكي"، تمتلك هذه المنظمات قائمة طويلة من المصالح التجارية "القانونية" (مطاعم، حوانيت كبيرة/ سوبر ماركت، قاعات أفراح وغيرها)، سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة، كما تبذل خلال السنوات الأخيرة محاولات لاقتحام الحكم المحلي من خلال السيطرة على عدد من السلطات المحلية. ثمة ادعاءات وشهادات تفيد بأنها تموّل حملات انتخابية، توفر السلاح لمجموعات متنافسة في الانتخابات وتدفع نحو ترجيح كفتها هي في مناقصات مختلفة، وخصوصًا من خلال التهديد والتخويف بإطلاق النيران على مقاولين أو على مسؤولين كبار في السلطات المحلية.
خلال السنة الماضية فقط، أُطلقت عيارات نارية على نحو 15 من رؤساء السلطات المحلية العربية (من أصل 75 سلطة محلية في المجتمع العربي إجمالًا). وقد شهدت هذه الظاهرة تصعيدًا واضحًا إثر اعتماد "الخطة رقم 922" التي نصّت على تحويل مبالغ كبيرة، نسبيًا، إلى السلطات المحلية العربية، ما جعلها هدفًا مفضَّلًا لدى منظمات الإجرام.
في الخلاصة: يجري الحديث هنا عن "دولة داخل دولة"، على غرار ما تفعله منظمات الإجرام في العالم، مثل المافيا الإيطالية، التي تسيطر على مناطق جغرافية بأكملها، تقيم وتدير أنشطة اقتصادية واسعة ومتنوعة، قانونية وغير قانونية، وتستجمع قوة سياسية هائلة.
كيف سمحت الدولة لكل هذه المنظومة بالاتساع والازدهار؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يبرز من سلسلة التقارير هنا. ثمة إجماع شبه تام على عجز الشرطة، بل على إهمالها المتعمَّد، على لا مبالاتها إزاء واقع أن "العرب يقتلون بعضَهم بعضًا".
ثمة قرائن تثبت أن الشرطة تغض الطرف عن، بل توفر الحماية حتى، لفلسطينيين عملاء "تعاونوا" أو ما زالوا "يتعاونون" مع قوات "الأمن" الإسرائيلية ويستخدمون الأسلحة التي حصلوا عليها من خلال "تعاونهم" هذا ويستغلون "قوتهم" الناجمة عن ذلك في أعمال الإجرام.
ويؤكد قادة ونشطاء فلسطينيون أن الحديث يدور حتى عن خطة رسمية مرسومة لتفتيت المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل. وثمة، في نهاية المطاف، حقيقة واحدة لا جدال عليها ولا شكّ فيها: هي ظاهرة هائلة لا تحظى بأي علاج.
إذن، كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ كيف ارتفعت معدلات القتل بهذه الوتيرة الحادة؟ كانت الجريمة موجودة في البلدات العربية على الدوام، لكن ليس بهذه الوتيرة ولا بهذا الحجم كما نراها اليوم. في العام 2015، وقعت 58 جريمة قتل بين الفلسطينيين في الداخل، الذين يبلغ تعدادهم 1,7 مليون نسمة، مقابل 54 جريمة قتل في الضفة الغربية التي يعيش فيها نحو مليونيّ فلسطيني. وفي العام 2017، ارتفع العدد إلى 72 جريمة قتل في البلدات العربية، ثم إلى 81 في العام 2018، حتى بلغ ذروته في العام 2019، 92 جريمة قتل في البلدات والأحياء العربية، مقابل 28 جريمة قتل بين عدد مماثل من السكان في الضفة الغربية. كيف يحدث هذا؟ كيف حصل ارتفاع بنسبة 58% في عدد جرائم القتل في البلدات العربية في غضون خمس سنوات، مقابل هبوط بنحو 50% في عددها في الضفة الغربية خلال الفترة ذاتها؟
يبيّن تقرير أصدره مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست، يتضمن معطيات عن السنوات 2014 حتى منتصف 2017، أن نسبة ضحايا جرائم القتل لكل 100 ألف إنسان في "الوسط غير اليهودي" تعادل خمسة أضعافها في الوسط اليهودي. 57% من المتهمين، أي الذين قُدمت بحقهم لوائح اتهام بجريمة القتل، هم من غير اليهود. 212 من بين الضحايا الـ397 الذين أصيبوا جراء محاولات قتل، أي نحو 53%، هم من غير اليهود.
وخلال العامين 2014 – 2015، كانت نسبة ضحايا محاولات القتل لكل 100 ألف إنسان في "الوسط غير اليهودي" أكثر من ثلاثة أضعاف نسبتهم بين اليهود. وفي العام 2016، ازداد هذا الفارق إلى نحو أربعة أضعاف. يمكننا أن نفترض بأن هذا الفارق قد سجل زيادة أخرى في العام 2019، علمًا بأن الشرطة لم تنشر معطيات نهائية عنه، بعد.
كذلك "الحل السحري" الذي تعرضه الدولة، إقامة محطات للشرطة في البلدات العربية، لا يجدي نفعًا. بل، ربما العكس تمامًا. فنحن نبيّن، في تقرير منفصل (سيُنشر لاحقًا)، أن عدد جرائم القتل في غالبية البلدات العربية التي افتُتحت فيها مراكز للشرطة خلال السنوات الأخيرة قد ارتفع، بدل أن ينخفض (في العام 2015، قررت الحكومة افتتاح 11 مركزًا جديدًا للشرطة في البلدات العربية، تم حتى الآن افتتاح سبعة منها، علاوة على المراكز الأخرى التي أقيمت منذ العام 2010).
قبل انهيار منظمات الإجرام الكبيرة في الشارع اليهودي – يضيف الأخصائي في علم الإجرام من "كلية الجليل الغربي" والمفتش القطري على برامج محاربة العنف، المخدرات والكحول في وزارة الأمن الداخلي حتى مؤخرًا، د. وليد حداد، كانت منظمات الإجرام العربية بمثابة مقاول ثانوي لها. "هي (الأخيرة) التي كانت تتولى التنفيذ"، يقول حداد، "فقد أُرسِل العرب لإطلاق النار على شخص ما، تنفيذًا لأوامر منظمات الإجرام اليهودية. لم يكن ثمة تنظيم هرميّ في منظمات الإجرام العربية، ولا أي تنظيم أصلًا، كما لم تكن تمتلك قدرات عملانية تنفيذية. وفي اللحظة التي توقفت فيها منظمات الإجرام العربية عن تأدية دور المقاول الثانوي للمنظمات اليهودية، شرعت في تطوير ذاتها".
هذه الظاهرة، يضيف حداد، لم تكن غائبة عن أعين الشرطة. "كرجل اختصاص، لا يمكنني القول إن الشرطة تصرفت بنيَة سليمة ولم تنتبه لحقيقة أن الإجرام المنظم ينتقل إلى المجتمع العربي"، إذ دخلت منظمات الإجرام العربية إلى الفراغ الذي خلفته منظمات الإجرام اليهودية: تجارة المخدرات، الاتجار بالنساء اللواتي كان يتم جلبهن من روسيا وأوكرانيا عبر مصر، وتجارة السلاح؛ "مَن كان جنديًا في منظمات الإجرام اليهودية، ترقّى"، يقول سعدة.
تقرير عن موقع "عرب 48"